بسم الله الرحمن الرحيم
والمقصود أن الطب له وجهان : أحدهما وقائي والثاني علاجي، إلا أن هذا التعريف رغم اختصاره لا يفي بالمعنى تماماً. لكن نظرة ابن رشد(3) مختلفة، فهو يقول :"إن صناعة الطب هي صناعة فاعلة عن مبادئ صادقة، يلتمس بها حفظ صحة بدن الإنسان، وإبطال المرض، وذلك بأقصى ما يمكن في واحد من الأبدان. فإن هذه الصناعة ليس غايتها أن تبرئ ولا بد، بل أن تفعل ما يجب، وفي الوقت الذي يجب، ثم تنتظر في حصول غايتها، كالحال في صناعة الملاحة وقَوْد الجيوش".
وواضح من هذا التعريف الفكر الفلسفي المختفي وراءه. وكلمته هذه أعمق وأعظم من كلمة أمبرواز باريه Ambroise Paré : "أنا المعالج، واللّه هو الشافي".
فليس على الطبيب أن يجعل نصب عينيه برء مريضه مهما كلف الأمر، بل القيام بالواجب نحوه وحسب الأصول والقواعد العلمية المعروفة، والباقي على اللّه.
ويستمر الفيلسوف ابن رشد في شرح فكرته فيقول :
"ولما كانت الصنائع الفاعلة، بما هي صنائع فاعلة، تشتمل على ثلاثة أشياء: أحدها : معرفة موضوعاتها، والثاني : معرفة الغايات المطلوب تحصيلها في تلك الموضوعات، والثالث : معرفة الآلات التي تحصل بها تلك الغايات في تلك الموضوعات، انقسمت، باضطرار، صناعة الطب أولاً إلى هذه الأقسام الثلاثة".
ويستمر في التقسيم والتفصيل حتى يصل إلى قوله : انقسمت هذه الصناعات إلى سبعة أجزاء عظمى :
الجزء الأول : يذكر فيه أعضاء الإنسان التي شوهدت بالحس، البسيطة والمركبة.
الجزء الثاني : تعرف فيه الصحة وأنواعها وأعراضها.
والثالث : المرض وأنواعه وأعراضه.
والرابع : العلامات الصحية والمرضية.
والخامس : الآلات، وهي : الأغذية والأدوية.
والسادس : الوجه في حفظ الصحة.
والسابع : الحيلة في إزالة المرض".
وتعريفه مبني على فكر فلسفي يبعده نوعاً ما، في رأينا، عن الطب العملي السريري.
ويقول الرازي في تعريف الطب : "الطب هو حفظ صحة الأصحاء، وردها على المرضى بقدر طاقة الإنسان".
ولعل قول ابن رضوان، الذي يعرف الطب في كتابه "مقالة في شرف الطب" (الباب الأول) أفضل، فيقول(4) : "إن منافع هذه المهنة ومحاسنها كبيرة، منها في البدن، ومنها في النفس، ومنها اكتساب ولاية اللّه عز وجل، باكتساب المال، واكتساب الرئاسة والكرامة".
أما بالنسبة للبدن، فهو يعطي تعريفاً علمياً دقيقاً، إذ يقول :
"حفظ الصحة ومنع حدوث المرض المزمع بمقاومة أسبابه، ومحو تأثيرها على البدن، وإنعاش البدن الضعيف حتى يقوى، وعلاج المرض وإبطاله، وإعادة الصحة، وإطالة العمر، حسبما يمكن في كل واحد من الأبدان إلى أن يبلغ أطول ما يمكن في مثله من الطول مدة للشباب، ومدة للشيخوخة".
وبهذا فقد عبر عن كل الفنون الطبية، من وقاية وعلاج، وفن الصحة، وطب الشيخوخة.
أما صفات الطبيب الفاضل، فيجب أن يكون ذا خصال عديدة، حددها ابن رضوان(5) بقوله: إن الطبيب على رأي بقراط هو الذي اجتمعت فيه سبع خصال :
الأولى : أن يكون تام الخلق، صحيح الأعضاء، حسن الذكاء، جيد الرؤية، عاقلاً، وخير الطبع.
الثانية : أن يكون حسن الملبس، طيب الرائحة، نظيف البدن والثوب.
الثالثة : أن يكون كتوماً لأسرار المرضى لا يبوح بشيء من أمراضهم.
الرابعة : أن تكون رغبته في إبراء المرضى أكثر من رغبته فيما يلتمس من الأجرة، ورغبته في علاج الفقراء أكثر من رغبته في علاج الأغنياء.
الخامسة : أن يكون حريصاً على التعلم والمبالغة في منافع الناس.
السادسة : أن يكون سليم القلب، عفيف النظر، صادق اللهجة، ولا يخطر بباله شيء من أمور النساء، والأموال التي شاهدها في منازل الأعلاء، فضلاً عن أن يتعرض إلى شيء منها.
السابعة : أن يكون مأمونا،ً ثقة على الأرواح والأموال، لا يصف دواءً قاتلاً ولا يعلمه، ولا دواء يسقط الأجنة، يعالج عدوه بنية صادقة كما يعالج حبيبه".
ويقول أيضاً (6) :
"ولا يمتنع في حال من الأحوال عن علاج الفقراء والاتصال بهم، وليكن أمره على المرضى من غير قهر ولا قوة، بل يخاطبهم بألين خطاب، وطلاقة وجه، ومن أبى العلاج وقدر أن يقهره على ذلك بمن يمسكه له أو نحو هذا لم يمتنع من هذا العمل، فكيف تصرفت الأحوال فلا يمتنع من شيء حتى يؤدي إلى دفع المرضى من غير غضاضة ولا قوة، ويتوقى أن لا يحتشم من الفحص واستقصاء المسألة مما ينتفع به ويحتاج إلى معرفته، ولا يبالي إذا اقتنع المريض ومن يحضره كيف أقنعهم بعمل من أعمال الطب أم بحيلة أخرى متى كان فعله هذا يؤدي إلى انتفاع المريض".
أما فحص المريض فقد كان يجري حسب أصول معلومة.
فإذا ذهب إلى أحد المشافي":أن يجيء الرجل فيصف ما يجد لأول من يلقاه منهم (من تلاميذ الرازي)، فإن كان عنده علم وإلا تعداه إلى غيره، فإن أصابوا وإلا تكلم الرازي في ذلك"(7).
وهو ما يجري في المستشفيات الجامعية حالياً إذ يستقبل المريض المعاود، وإذا لم يستطع حل المشكلة جاء المقيم، ومن ثم الطبيب الأستاذ.
أما في المنزل أو العيادة، فقد كان أول ما يفعله الطبيب أن يحدق في وجه المريض أول الأمر ليرى فيما إذا كانت على وجهه علامات إنذار سيء (البقراطية المعروفة) ويصفها أبقراط في كتابه "تقدمة المعرفة" : "وصفته أن يكون الأنف منه حاداً، والعينان غائرتين، والصدغان لاطئين، والأذنان باردتين، وشحمتاهما منقلبتين، والجلدة التي على الوجه صلبة متمددة، ولون الوجه كله أخضر أو أسود. جملة هذه الصفات إذا استحكمت فهي صفات وحدود الموتى".
بينما يصفها ابن سينا( بقوله :
"الوجه الذي يشبه وجه الميت ويخالف وجوه الأصحاء، هو الذي غارت عينه وتحدد أنفه ولطأ صدغه، وتقبضت وبردت أذناه، وانقلبت شحمته، وتمددت جلدته، وكمد لونه أو اسود أو اخضر، وعلته غبرة كغبرة القطن المندوف، فإنها علامة موت عاجل، فإذا وجدتها فأعلم الأهل وانصرف".
وإذا تقدم من المريض يسلم عليه، ويبدأ الفحص بالتأمل فينظر هل هو جالس أم متمدد ؟ هل ينظر بذكاء وانتباه ؟ هل يدير ظهره للضوء أم يستقبله ؟ هل يقوم بحركات عصبية في يديه ورجليه؟. وينظر أيضاً في نفسه ولونه وطريقة كلامه، ثم يبدأ بالتحدث مع المريض وسؤاله عن حاله وكيفية ظهور دائه، (الاستجواب) عندئذ يبدأ بفحص المريض بعد أن ينزع ملابسه.
والفحص يعتمد على القرع والجس، ثم فحص النبض بدقة. وينتهي الفحص بمعاينة البراز، أو القيء، أو التقشع، وخاصةً : فحص البول (التفسرة)، وكانت له أهمية بالغة.
ولكل دور من أدوار الفحص هذا أصول مدروسة ودقيقة يجب احترامها. وبعد ذلك يعمد الطبيب إلى كتابة وصفة ليذهب أهل المريض لشرائها من الصيدلي إلى جانب نصائح مختلفة.
كان الأطباء العرب يولون علم الصحة العام أهمية كبرى، وقد كرسوا لها الكتب الكثيرة، وتعتمد أغلبها على الاعتدال في كل الأمور.
والواقع أنه حتى في يومنا هذا، فالمريض ينتظر من طبيبه رأيه في أمور ثلاثة : التشخيص، والإنذار، والمعالجة.
إلا أن الإنذار كان أهم شيء في الموضوع، ومعرفته كانت أساسيةً وأوليةً وضروريةً.
ولكن ابن سينا وصف الحدس منذ زمن بعيد فقال(9) : "إن من المتعلمين من يكون أقرب إلى التصور، لأن فيما بينه وبين نفسه سمي هذا الاستعداد القوي حدثاً. وهذا الاستعداد قد يشتد في بعض الناس حتى لا يحتاج في أن يصل بالعقل الفعال إلى شيء كثير وإلى تخريج وتعليم، بل يكون شديد الاستعداد لذلك، كأن الاستعداد الثاني حاصل له، بل كأنه يعرف كل شيء من نفسه".
وهذا صحيح بتمامه. فكثيراً ما يعجز الطبيب عن تفسير كيفية اهتدائه إلى التشخيص الأكيد بالمنطق لوحده. ويبدو أن هذا الحدس هو نوع من الموهبة صقلها الذكاء والتجربة والشهرة والعلم، فأصبحت علامات متفرقة تكفي لأن تتجمع في مخيلة الطبيب لتثير فيها تداعياً يشكل بمجموعه التشخيص، فيكون العمل انعكاسياً لا إرادياً تقريباً، رغم أنني لا أثق كثيراً بهذا الحدس، وأفضل البراهين المادية العملية.
النبض في الطب العربي
يقول ابن سينا : "النبض حركة من أوعية الروح، مؤلفة من انبساط وانقباض لتبريد الروح بالنسيم. والانبساط هذا والانقباض ينسجمان مع فكرتهم في أن حركة الدم كانت عبارةً عن مد وجزر لتهوية الدم عبر الرئتين".
ويقول ابن النفيس : "النبض هو حركة وضعية للشرايين، فقبض وسط لتعديل الروح بالنسيم وإخراج فضلاته".
وقال علي ابن رضوان : "النبض حركة فجائية يحركها القلب والشرايين بانبساطها وانقباضها لحفظ الحرارة الغريزية على اعتدالها، والزيادة في الروح الحيواني، لتوليد النفساني".
قال حنين الذي يجد أيضاً تعبيراً آخر وهو : "إن مثال النبض هو رسول لا يكذب ومنادي آخر من يخبر عن أشياء خفية بحركات الأضداد الظاهرة. ويكون فرط الحرارة الغريزية على اعتدالها بخروج البخار الحار الذي يكون بالانبساط".
ولكنني أجد تعريف علي بن عباس المجوسي أفضل، إذ يقول : "إن القلب والعروق الضوارب (أي الشرايين) تتحرك كلها حركةً واحدةً على مثال واحد وزمان واحد، ويعني أن حركة كل واحد منها مساوية لحركة الآخر، لا يخالف بعضها بعضاً في جميع حالاتها، حتى أنه يمكن أن يقاس بواحد منها على جميعها، ولذلك صرنا نتعرف حالة حركة القلب من حركة الشريان". وكلامه هذا صحيح كل الصحة.
في تكوين النبض :
يقول ابن سينا : "إن كل نبضة مركبة من حركتين وسكونين، لأن كل نبض مركب من انبساط وانقباض، ثم يحصل لمسافتها نهاية وطرف بالفصل".
ويقول أيضاً : "يكون لكل نبضة إلى أن تلحق الأخرى أجزاء أربعة : حركتان وسكون ـ حركة انبساط، وسكون بينه وبين الانقباض ـ وحركة انقباض وسكون بينه وبين الانبساط".
أي أن كل نبضة مؤلفة من : سكون ـ انبساط ـ سكون ـ انقباض.
وإذا عدنا إلى مختلف أنواع التخاطيط الحديثة وجدنا هذا التعريف ينطبق على تسجيل الضربات بجهاز ماريه كما يلي : سكون ـ انبساط ـ سكون ـ انقباض.
أما إذا عدنا إلى تخطيط النبض بالجهاز نفسه وجدناه مع ارتفاع صغير أثناء الانبساط.
وإذا أردنا رسم مخطط النبض حسب تعريف ابن سينا، كان هذا الشكل يتغير أيضاً عندما نقرأ قوله: "وحركة الانقباض عند كثيرين من الأطباء غير محسوسة أصلاً"، ثم يضيف : "وإن كان الأمر على ما يقولون فالانقباض في أكثر الأحوال غير محسوس"، ويذكر قول جالينوس : "إني لم أزل أنقل عن الانقباض مدة ثم لم أزل أتعاهد الجس، حتى فطنت لشيء منه ثم بعد حين أحكمت، ثم انفتح علي أبواب من النبض، ومن تعهد ذلك تعهدي أدرك إدراكي".
أي أن زمان الانقباض يصبح قصيراً جداً غير محسوس تقريباً، ويزيد ابن سينا فيقول : "وعند بعضهم (بعض الأطباء) أن زمن الانقباض قد يخص في النبض القوي لقوته، وأما في العظم فلإشرافه، وأما في الصلب فلشدة مقاومته، وأما في البطيء فلطول مدة حركته".
إذن، في الحال الطبيعية : الانقباض غير محسوس ولكنه في الحالات المرضية قد يكبر فيحس به.
وظيفة النبض :
يقول ابن النفيس : "أسباب النبض ـ الحاجة إلى النبض هي ترويح الحار الغريزي"، ويعرفه كما سبق أن قلنا إنه : "حركة تعديل الروح بالنسيم وإخراج الفضلات"، لأنها على كثرتها وتفريعها أقرب إلى الخيال من الحقيقة والواقع. ويقول ابن سينا هو نفسه : "ومن مركبات النبض أصناف تكاد لا تتناهى ولا أسماء لها"، ويقول أيضاً : "وعليك بالتركيب والتأليف".
اعتمد القدماء على عشر صفات لتصنيف النبض وهي :
1. مقدار الانبساط؛
2. كيفية قرع الحركة للأصابع؛
3. زمان كل حركة؛
4. قوام الآلة؛
5. خلاء النبض وإملاؤه؛
6. حر ملمسه وبرده؛
7. زمان السكون؛
8. استواء النبض واختلاله؛
9. نظامه في الاختلاف، أو تركه للنظام؛
10. المأخوذ من الوزن.
ويصنفون أنباضاً أخرى أيضاً، منها :
المنشاري : شبيه بالزجي في اختلاف الأجزاء في الشهوق والعرض، وفي التقدم والتأخر، لكنه صلب. وهو سريع، متواتر، صلب، مختلف الأجزاء في عظم الأنباض والصلابة واللين.
ذنب الفأر : يتدرج في اختلاف أجزائه من نقصان إلى زيادة، ومن زيادة إلى نقصان. يكون في نبضات كثيرة، أو في نبضة واحدة في أجزاء كثيرة، أو في جزء واحد، وخلافه الآخرالذي يتعلق بالعظم، وقد يكون باعتبار البطء والسرعة والقوة والضعف.
السلي : يأخذ بالنقصان إلى حد في الزيادة، ثم يتناقص حتى يبلغ الحد الأول في النقصان فيكون كذنبي فأر متصلين عند الطرف الأعظم. والأطباء فيه مختلفون، فمنهم من يقول إنه نبضة واحدة مختلفة في التقدم والتأخر، ومنهم من يقول إنه نبضتان متلاحقتان.
ذو الفترة : الواقع في الوسط : تكون فيه طارئة في زمان السكون وانقضاء القرعة الأولى.
متشنج، مرتعش أو مرتعد. وملتوٍ : كأنه خيط يلتوي.
بينما يعرف المجوسي وظيفة النبض بقوله(10) : "ينبغي أن تعلم أن العروق الضوارب في وقت الانبساط ما كان منها قريباً من القلب اجتذب الهواء والدم اللطيف من القلب باضطرار الخلاء في وقت الانقباض، تخلو من الدم والهواء. فإذا انبسطت عاد إليها الدم والهواء وملآها. وما كان قريباً منها متوسطاً فيما بين القلب والجلد فمن شأنه أن يجتذب من العروق غير الضوارب ألطف ما فيها من الدم".
النبض، إذن، هو حركة موضعية المراد منها استقبال الهواء الخارجي عبر الجلد لتعديل الروح، والتخلص من فضلات الروح البخارية عبر الطريق نفسها. وهي نظرية أنباذ وقليس الأجرنيطي في القرن الثامن قبل الميلاد.
كيفية جس النبض
يقول ابن سينا : "السبب في وقوع الاختيار على جس عرق الساعد أمور ثلاثة : سهولة متناولة، وقلة المحاشاة في كشفه، واستقامة وضعه بحذاء القلب وقربه منه".
وأعتقد أن قول علي بن عباس المجوسي ينطبق تماماً على هذا السؤال : "إن الفعل بأمر النبض صعب، ومعرفته عسرة المأخذ، وذلك من ثلاثة أشياء، أحدها أنه لا يسهل على الإنسان أن يتدرب في مجسة العروق تدريباً يصير به إلى معرفة التغير اليسير إلا في النبض.
والثاني : أنه يحتاج عند جس الشريان أن يعرف أجناس النبض كلها في زمان يسير، وهي عشرة أجناس.
والثالث : إن نبضات العروق ليس لها شبيه ولا مقياس يقاس به وتتعلم عليه، ولذلك يجب على الطبيب أن يرتاض في جس العروق زماناً طويلاً، رياضة تامة بعناية وفهم ... والقلب والعروق الضوارب تتحرك كلها حركةً واحدةً، على مثال واحد، في زمان واحد"، يعني أن حركة كل واحد منها مساوية لحركة الآخر، لا يخالف بعضها بعضاً في جميع حالاتها، حتى أنه يمكن أن يقاس بواحد منها، على جميعها، ولذلك صرنا نتعرف على حال حركة القلب من حركة الشريان.
تصنيف الأنباض
لدى دراسة هذا الفصل في معظم الكتب الطبية القديمة، يداخلنا الشك في أن الأطباء القدماء على براعتهم وخبرتهم، قد توصلوا فعلاً إلى هذا التصنيف بالدراسة والمشاهدة وفحص المرضى، وليس بفعل الفكر والخيال.
فحص البول أو القارورة أو التفسرة
كان فحص البول عند القدماء لا يقل أهميةً عن فحص النبض. وكان لفحص البول، كما هي الحال اليوم، شروط دقيقة وعلمية. يجب جمعه في القارورة صباحاً، على أن لا يكون المريض قد تناول أدويةً أو أطعمةً قادرةً على تغيير لون البول (كالزعفران والرمان والبقول)، أو القيام بأعمال تغير من تركيبه (كالصوم والحيض والسهر والتعب والجوع). ويجب أن لا يكون قد مضى عليه زمن طويل، (ويشدد ابن سينا على هذه الناحية، فلا يقبل بأكثر من ساعة واحدة).
ويشرح الرازي طريقة الفحص، فيقول : "يجب أن تؤخذ القارورة وتوجه نحو كرة نور على أن لا يسقط شعاع الشمس عليها. ويقف الطبيب في الجهة المقابلة للجهة المضيئة. وذلك بعد أن يكون قد ترك فترةً من الزمن حتى ترسب فيه المواد، وما على القارورة سمي راسباً". وتدرس صفاته وهي : اللون، والقوام، والصفاء، والرسوب، والرائحة.
وكان بعض العلماء، ومنهم الرازي، يضيفون إلى تلك الصفات : اللمس والطعم بينما يرفض ابن سينا ذلك، أما فحص البول فيدل على أحوال الكبد، وجهاز البول، والحميات بشكل عام، وأمراض الدم، إلخ ... .
ولا عجب فلم يكن لديهم من وسائل التشخيص إلا القليل. ولذلك كان التشخيص التفريقي صعباً، واهتم الأطباء به، فكانوا يذيلون وصف الداء بالتشخيص التفريقي المناسب. بل إن الرازي كرس للموضوع كتاباً خاصاً بعنوان ما الفارق، أو الفروق أو كلام في الفروق بين الأمراض، كان لي شرف تحقيقه ونشره. وألف ابن الجزار كتاباً في الموضوع نفسه أسماه : الفروق بين العلل والأمراض التي تسببه.
وفيما يلي يجد القارئ دراسةً عن النبض في الطب العربي كنموذج للاهتمام الدقيق بدراسة العلامات السريرية.
تشدد بعض المدارس الطبية وخاصةً الفرنسية منها، على ما نسميه بالحدس السريري Le Bon sens clinique. وهي صفة خاصة كالموهبة تساعد الطبيب الموهوب على الوصول إلى التشخيص بشكل أدق وأسرع. وقد يسميها البعض حاسة الشم، فكما أن الحيوان يهتدي إلى الشيء الضائع الذي يبحث عنه بقوة حاسة الشم لديه، كذلك يصل الطبيب إلى التشخيص بهذه الحاسة الغريبة لديه.
"إني أرى من أفضل الأمور أن يستعمل الطبيب المعاينة بالنظر، ذلك أنه إذا سبق فعلم وتقدمه، فأنذر المرضى بالشيء الحاضر وبما مضى، وما يستأنف وعبر عن المريض كل ما كان قصر عن وصفه كان حرياً بأن يوثق به، وبأنه قادر على أن يعلم أمور المرضى حتى يدعو ذلك المرضى إلى الثقة به والاستسلام في يدي الطبيب، وكان علاجه لهم على أفضل الوجوه، إذ كان يتقدم في علم من العلل الحاضرة وما تؤول إليه."
وربما كان السبب أن معظم المرضى كانوا ولا يزالون في البلاد المتخلفة، لا يستدعون الطبيب إلا بعد استفحال المرض.
وهنا كان على الطبيب أن يتعرف على العلامات المنذرة بالموت والتي كرس لها أبقراط كتاباً بأكمله عرف باسم تقدمة المعرفة Prognosis.
وهي أكثر من الإنذار، فهي تعني، كما يقول ابن رضوان : "تعرف العلامات التي يقف بها الطبيب على أحوال مرض في الأزمان الثلاثة : في الماضي، والحاضر والمستقبل. وعرف أنه إذا أخبر بالماضي وثق به المريض فاستسلم له فتمكن بذلك من علاجه على ما توجبه الصناعة. وإذا عرف الحاضر قابله بما ينبغي من الأدوية وغيرها، وإذا عرف المستقبل استعد له بجميع ما يقابله به قبل أن يهجم عليه ما لا يحمله إلى أن يلقاه بما ينبغي".
ولقد شرح كثيرون كتاب تقدمة المعرفة، منهم ابن النفيس، وذلك لأهمية الموضوع كما قلنا.
أما التشخيص فهو يعتمد على الاستجواب، وفحص المريض. عندئذ يمكن تقسيم الداء إلى نوعين والمعالجة أيضاً:
الداء الأول : قابل للشفاء، وهنا يلعب علم الطبيب وبراعته دوراً كبيراً.
والداء الثاني : مرض قتال، وعلى الطبيب التشخيص الجيد والإنذار الصحيح، وربما استطاع عن طريق المداواة، أن يطيل حياة المريض.
والمعالجة الأولى : أن يتخذ المريض أغذية تناسب حالته.
والمعالجة الثانية : أن يتلطف بالأدوية التي يعالج بها. وقد قال القدماء إن أكثر الأدوية نفعاً هي المتوافرة والرخيصة.
ولقد تميز الأطباء القدامى بمقدرتهم الكبيرة على التأمل ودراسة تطور المرض سريرياً بمراحل وتسجيل جميع التفاصيل بدقة متناهية. مثال ذلك دراسة البول.
والمقصود أن الطب له وجهان : أحدهما وقائي والثاني علاجي، إلا أن هذا التعريف رغم اختصاره لا يفي بالمعنى تماماً. لكن نظرة ابن رشد(3) مختلفة، فهو يقول :"إن صناعة الطب هي صناعة فاعلة عن مبادئ صادقة، يلتمس بها حفظ صحة بدن الإنسان، وإبطال المرض، وذلك بأقصى ما يمكن في واحد من الأبدان. فإن هذه الصناعة ليس غايتها أن تبرئ ولا بد، بل أن تفعل ما يجب، وفي الوقت الذي يجب، ثم تنتظر في حصول غايتها، كالحال في صناعة الملاحة وقَوْد الجيوش".
وواضح من هذا التعريف الفكر الفلسفي المختفي وراءه. وكلمته هذه أعمق وأعظم من كلمة أمبرواز باريه Ambroise Paré : "أنا المعالج، واللّه هو الشافي".
فليس على الطبيب أن يجعل نصب عينيه برء مريضه مهما كلف الأمر، بل القيام بالواجب نحوه وحسب الأصول والقواعد العلمية المعروفة، والباقي على اللّه.
ويستمر الفيلسوف ابن رشد في شرح فكرته فيقول :
"ولما كانت الصنائع الفاعلة، بما هي صنائع فاعلة، تشتمل على ثلاثة أشياء: أحدها : معرفة موضوعاتها، والثاني : معرفة الغايات المطلوب تحصيلها في تلك الموضوعات، والثالث : معرفة الآلات التي تحصل بها تلك الغايات في تلك الموضوعات، انقسمت، باضطرار، صناعة الطب أولاً إلى هذه الأقسام الثلاثة".
ويستمر في التقسيم والتفصيل حتى يصل إلى قوله : انقسمت هذه الصناعات إلى سبعة أجزاء عظمى :
الجزء الأول : يذكر فيه أعضاء الإنسان التي شوهدت بالحس، البسيطة والمركبة.
الجزء الثاني : تعرف فيه الصحة وأنواعها وأعراضها.
والثالث : المرض وأنواعه وأعراضه.
والرابع : العلامات الصحية والمرضية.
والخامس : الآلات، وهي : الأغذية والأدوية.
والسادس : الوجه في حفظ الصحة.
والسابع : الحيلة في إزالة المرض".
وتعريفه مبني على فكر فلسفي يبعده نوعاً ما، في رأينا، عن الطب العملي السريري.
ويقول الرازي في تعريف الطب : "الطب هو حفظ صحة الأصحاء، وردها على المرضى بقدر طاقة الإنسان".
ولعل قول ابن رضوان، الذي يعرف الطب في كتابه "مقالة في شرف الطب" (الباب الأول) أفضل، فيقول(4) : "إن منافع هذه المهنة ومحاسنها كبيرة، منها في البدن، ومنها في النفس، ومنها اكتساب ولاية اللّه عز وجل، باكتساب المال، واكتساب الرئاسة والكرامة".
أما بالنسبة للبدن، فهو يعطي تعريفاً علمياً دقيقاً، إذ يقول :
"حفظ الصحة ومنع حدوث المرض المزمع بمقاومة أسبابه، ومحو تأثيرها على البدن، وإنعاش البدن الضعيف حتى يقوى، وعلاج المرض وإبطاله، وإعادة الصحة، وإطالة العمر، حسبما يمكن في كل واحد من الأبدان إلى أن يبلغ أطول ما يمكن في مثله من الطول مدة للشباب، ومدة للشيخوخة".
وبهذا فقد عبر عن كل الفنون الطبية، من وقاية وعلاج، وفن الصحة، وطب الشيخوخة.
أما صفات الطبيب الفاضل، فيجب أن يكون ذا خصال عديدة، حددها ابن رضوان(5) بقوله: إن الطبيب على رأي بقراط هو الذي اجتمعت فيه سبع خصال :
الأولى : أن يكون تام الخلق، صحيح الأعضاء، حسن الذكاء، جيد الرؤية، عاقلاً، وخير الطبع.
الثانية : أن يكون حسن الملبس، طيب الرائحة، نظيف البدن والثوب.
الثالثة : أن يكون كتوماً لأسرار المرضى لا يبوح بشيء من أمراضهم.
الرابعة : أن تكون رغبته في إبراء المرضى أكثر من رغبته فيما يلتمس من الأجرة، ورغبته في علاج الفقراء أكثر من رغبته في علاج الأغنياء.
الخامسة : أن يكون حريصاً على التعلم والمبالغة في منافع الناس.
السادسة : أن يكون سليم القلب، عفيف النظر، صادق اللهجة، ولا يخطر بباله شيء من أمور النساء، والأموال التي شاهدها في منازل الأعلاء، فضلاً عن أن يتعرض إلى شيء منها.
السابعة : أن يكون مأمونا،ً ثقة على الأرواح والأموال، لا يصف دواءً قاتلاً ولا يعلمه، ولا دواء يسقط الأجنة، يعالج عدوه بنية صادقة كما يعالج حبيبه".
ويقول أيضاً (6) :
"ولا يمتنع في حال من الأحوال عن علاج الفقراء والاتصال بهم، وليكن أمره على المرضى من غير قهر ولا قوة، بل يخاطبهم بألين خطاب، وطلاقة وجه، ومن أبى العلاج وقدر أن يقهره على ذلك بمن يمسكه له أو نحو هذا لم يمتنع من هذا العمل، فكيف تصرفت الأحوال فلا يمتنع من شيء حتى يؤدي إلى دفع المرضى من غير غضاضة ولا قوة، ويتوقى أن لا يحتشم من الفحص واستقصاء المسألة مما ينتفع به ويحتاج إلى معرفته، ولا يبالي إذا اقتنع المريض ومن يحضره كيف أقنعهم بعمل من أعمال الطب أم بحيلة أخرى متى كان فعله هذا يؤدي إلى انتفاع المريض".
أما فحص المريض فقد كان يجري حسب أصول معلومة.
فإذا ذهب إلى أحد المشافي":أن يجيء الرجل فيصف ما يجد لأول من يلقاه منهم (من تلاميذ الرازي)، فإن كان عنده علم وإلا تعداه إلى غيره، فإن أصابوا وإلا تكلم الرازي في ذلك"(7).
وهو ما يجري في المستشفيات الجامعية حالياً إذ يستقبل المريض المعاود، وإذا لم يستطع حل المشكلة جاء المقيم، ومن ثم الطبيب الأستاذ.
أما في المنزل أو العيادة، فقد كان أول ما يفعله الطبيب أن يحدق في وجه المريض أول الأمر ليرى فيما إذا كانت على وجهه علامات إنذار سيء (البقراطية المعروفة) ويصفها أبقراط في كتابه "تقدمة المعرفة" : "وصفته أن يكون الأنف منه حاداً، والعينان غائرتين، والصدغان لاطئين، والأذنان باردتين، وشحمتاهما منقلبتين، والجلدة التي على الوجه صلبة متمددة، ولون الوجه كله أخضر أو أسود. جملة هذه الصفات إذا استحكمت فهي صفات وحدود الموتى".
بينما يصفها ابن سينا( بقوله :
"الوجه الذي يشبه وجه الميت ويخالف وجوه الأصحاء، هو الذي غارت عينه وتحدد أنفه ولطأ صدغه، وتقبضت وبردت أذناه، وانقلبت شحمته، وتمددت جلدته، وكمد لونه أو اسود أو اخضر، وعلته غبرة كغبرة القطن المندوف، فإنها علامة موت عاجل، فإذا وجدتها فأعلم الأهل وانصرف".
وإذا تقدم من المريض يسلم عليه، ويبدأ الفحص بالتأمل فينظر هل هو جالس أم متمدد ؟ هل ينظر بذكاء وانتباه ؟ هل يدير ظهره للضوء أم يستقبله ؟ هل يقوم بحركات عصبية في يديه ورجليه؟. وينظر أيضاً في نفسه ولونه وطريقة كلامه، ثم يبدأ بالتحدث مع المريض وسؤاله عن حاله وكيفية ظهور دائه، (الاستجواب) عندئذ يبدأ بفحص المريض بعد أن ينزع ملابسه.
والفحص يعتمد على القرع والجس، ثم فحص النبض بدقة. وينتهي الفحص بمعاينة البراز، أو القيء، أو التقشع، وخاصةً : فحص البول (التفسرة)، وكانت له أهمية بالغة.
ولكل دور من أدوار الفحص هذا أصول مدروسة ودقيقة يجب احترامها. وبعد ذلك يعمد الطبيب إلى كتابة وصفة ليذهب أهل المريض لشرائها من الصيدلي إلى جانب نصائح مختلفة.
كان الأطباء العرب يولون علم الصحة العام أهمية كبرى، وقد كرسوا لها الكتب الكثيرة، وتعتمد أغلبها على الاعتدال في كل الأمور.
والواقع أنه حتى في يومنا هذا، فالمريض ينتظر من طبيبه رأيه في أمور ثلاثة : التشخيص، والإنذار، والمعالجة.
إلا أن الإنذار كان أهم شيء في الموضوع، ومعرفته كانت أساسيةً وأوليةً وضروريةً.
ولكن ابن سينا وصف الحدس منذ زمن بعيد فقال(9) : "إن من المتعلمين من يكون أقرب إلى التصور، لأن فيما بينه وبين نفسه سمي هذا الاستعداد القوي حدثاً. وهذا الاستعداد قد يشتد في بعض الناس حتى لا يحتاج في أن يصل بالعقل الفعال إلى شيء كثير وإلى تخريج وتعليم، بل يكون شديد الاستعداد لذلك، كأن الاستعداد الثاني حاصل له، بل كأنه يعرف كل شيء من نفسه".
وهذا صحيح بتمامه. فكثيراً ما يعجز الطبيب عن تفسير كيفية اهتدائه إلى التشخيص الأكيد بالمنطق لوحده. ويبدو أن هذا الحدس هو نوع من الموهبة صقلها الذكاء والتجربة والشهرة والعلم، فأصبحت علامات متفرقة تكفي لأن تتجمع في مخيلة الطبيب لتثير فيها تداعياً يشكل بمجموعه التشخيص، فيكون العمل انعكاسياً لا إرادياً تقريباً، رغم أنني لا أثق كثيراً بهذا الحدس، وأفضل البراهين المادية العملية.
النبض في الطب العربي
يقول ابن سينا : "النبض حركة من أوعية الروح، مؤلفة من انبساط وانقباض لتبريد الروح بالنسيم. والانبساط هذا والانقباض ينسجمان مع فكرتهم في أن حركة الدم كانت عبارةً عن مد وجزر لتهوية الدم عبر الرئتين".
ويقول ابن النفيس : "النبض هو حركة وضعية للشرايين، فقبض وسط لتعديل الروح بالنسيم وإخراج فضلاته".
وقال علي ابن رضوان : "النبض حركة فجائية يحركها القلب والشرايين بانبساطها وانقباضها لحفظ الحرارة الغريزية على اعتدالها، والزيادة في الروح الحيواني، لتوليد النفساني".
قال حنين الذي يجد أيضاً تعبيراً آخر وهو : "إن مثال النبض هو رسول لا يكذب ومنادي آخر من يخبر عن أشياء خفية بحركات الأضداد الظاهرة. ويكون فرط الحرارة الغريزية على اعتدالها بخروج البخار الحار الذي يكون بالانبساط".
ولكنني أجد تعريف علي بن عباس المجوسي أفضل، إذ يقول : "إن القلب والعروق الضوارب (أي الشرايين) تتحرك كلها حركةً واحدةً على مثال واحد وزمان واحد، ويعني أن حركة كل واحد منها مساوية لحركة الآخر، لا يخالف بعضها بعضاً في جميع حالاتها، حتى أنه يمكن أن يقاس بواحد منها على جميعها، ولذلك صرنا نتعرف حالة حركة القلب من حركة الشريان". وكلامه هذا صحيح كل الصحة.
في تكوين النبض :
يقول ابن سينا : "إن كل نبضة مركبة من حركتين وسكونين، لأن كل نبض مركب من انبساط وانقباض، ثم يحصل لمسافتها نهاية وطرف بالفصل".
ويقول أيضاً : "يكون لكل نبضة إلى أن تلحق الأخرى أجزاء أربعة : حركتان وسكون ـ حركة انبساط، وسكون بينه وبين الانقباض ـ وحركة انقباض وسكون بينه وبين الانبساط".
أي أن كل نبضة مؤلفة من : سكون ـ انبساط ـ سكون ـ انقباض.
وإذا عدنا إلى مختلف أنواع التخاطيط الحديثة وجدنا هذا التعريف ينطبق على تسجيل الضربات بجهاز ماريه كما يلي : سكون ـ انبساط ـ سكون ـ انقباض.
أما إذا عدنا إلى تخطيط النبض بالجهاز نفسه وجدناه مع ارتفاع صغير أثناء الانبساط.
وإذا أردنا رسم مخطط النبض حسب تعريف ابن سينا، كان هذا الشكل يتغير أيضاً عندما نقرأ قوله: "وحركة الانقباض عند كثيرين من الأطباء غير محسوسة أصلاً"، ثم يضيف : "وإن كان الأمر على ما يقولون فالانقباض في أكثر الأحوال غير محسوس"، ويذكر قول جالينوس : "إني لم أزل أنقل عن الانقباض مدة ثم لم أزل أتعاهد الجس، حتى فطنت لشيء منه ثم بعد حين أحكمت، ثم انفتح علي أبواب من النبض، ومن تعهد ذلك تعهدي أدرك إدراكي".
أي أن زمان الانقباض يصبح قصيراً جداً غير محسوس تقريباً، ويزيد ابن سينا فيقول : "وعند بعضهم (بعض الأطباء) أن زمن الانقباض قد يخص في النبض القوي لقوته، وأما في العظم فلإشرافه، وأما في الصلب فلشدة مقاومته، وأما في البطيء فلطول مدة حركته".
إذن، في الحال الطبيعية : الانقباض غير محسوس ولكنه في الحالات المرضية قد يكبر فيحس به.
وظيفة النبض :
يقول ابن النفيس : "أسباب النبض ـ الحاجة إلى النبض هي ترويح الحار الغريزي"، ويعرفه كما سبق أن قلنا إنه : "حركة تعديل الروح بالنسيم وإخراج الفضلات"، لأنها على كثرتها وتفريعها أقرب إلى الخيال من الحقيقة والواقع. ويقول ابن سينا هو نفسه : "ومن مركبات النبض أصناف تكاد لا تتناهى ولا أسماء لها"، ويقول أيضاً : "وعليك بالتركيب والتأليف".
اعتمد القدماء على عشر صفات لتصنيف النبض وهي :
1. مقدار الانبساط؛
2. كيفية قرع الحركة للأصابع؛
3. زمان كل حركة؛
4. قوام الآلة؛
5. خلاء النبض وإملاؤه؛
6. حر ملمسه وبرده؛
7. زمان السكون؛
8. استواء النبض واختلاله؛
9. نظامه في الاختلاف، أو تركه للنظام؛
10. المأخوذ من الوزن.
ويصنفون أنباضاً أخرى أيضاً، منها :
المنشاري : شبيه بالزجي في اختلاف الأجزاء في الشهوق والعرض، وفي التقدم والتأخر، لكنه صلب. وهو سريع، متواتر، صلب، مختلف الأجزاء في عظم الأنباض والصلابة واللين.
ذنب الفأر : يتدرج في اختلاف أجزائه من نقصان إلى زيادة، ومن زيادة إلى نقصان. يكون في نبضات كثيرة، أو في نبضة واحدة في أجزاء كثيرة، أو في جزء واحد، وخلافه الآخرالذي يتعلق بالعظم، وقد يكون باعتبار البطء والسرعة والقوة والضعف.
السلي : يأخذ بالنقصان إلى حد في الزيادة، ثم يتناقص حتى يبلغ الحد الأول في النقصان فيكون كذنبي فأر متصلين عند الطرف الأعظم. والأطباء فيه مختلفون، فمنهم من يقول إنه نبضة واحدة مختلفة في التقدم والتأخر، ومنهم من يقول إنه نبضتان متلاحقتان.
ذو الفترة : الواقع في الوسط : تكون فيه طارئة في زمان السكون وانقضاء القرعة الأولى.
متشنج، مرتعش أو مرتعد. وملتوٍ : كأنه خيط يلتوي.
بينما يعرف المجوسي وظيفة النبض بقوله(10) : "ينبغي أن تعلم أن العروق الضوارب في وقت الانبساط ما كان منها قريباً من القلب اجتذب الهواء والدم اللطيف من القلب باضطرار الخلاء في وقت الانقباض، تخلو من الدم والهواء. فإذا انبسطت عاد إليها الدم والهواء وملآها. وما كان قريباً منها متوسطاً فيما بين القلب والجلد فمن شأنه أن يجتذب من العروق غير الضوارب ألطف ما فيها من الدم".
النبض، إذن، هو حركة موضعية المراد منها استقبال الهواء الخارجي عبر الجلد لتعديل الروح، والتخلص من فضلات الروح البخارية عبر الطريق نفسها. وهي نظرية أنباذ وقليس الأجرنيطي في القرن الثامن قبل الميلاد.
كيفية جس النبض
يقول ابن سينا : "السبب في وقوع الاختيار على جس عرق الساعد أمور ثلاثة : سهولة متناولة، وقلة المحاشاة في كشفه، واستقامة وضعه بحذاء القلب وقربه منه".
وأعتقد أن قول علي بن عباس المجوسي ينطبق تماماً على هذا السؤال : "إن الفعل بأمر النبض صعب، ومعرفته عسرة المأخذ، وذلك من ثلاثة أشياء، أحدها أنه لا يسهل على الإنسان أن يتدرب في مجسة العروق تدريباً يصير به إلى معرفة التغير اليسير إلا في النبض.
والثاني : أنه يحتاج عند جس الشريان أن يعرف أجناس النبض كلها في زمان يسير، وهي عشرة أجناس.
والثالث : إن نبضات العروق ليس لها شبيه ولا مقياس يقاس به وتتعلم عليه، ولذلك يجب على الطبيب أن يرتاض في جس العروق زماناً طويلاً، رياضة تامة بعناية وفهم ... والقلب والعروق الضوارب تتحرك كلها حركةً واحدةً، على مثال واحد، في زمان واحد"، يعني أن حركة كل واحد منها مساوية لحركة الآخر، لا يخالف بعضها بعضاً في جميع حالاتها، حتى أنه يمكن أن يقاس بواحد منها، على جميعها، ولذلك صرنا نتعرف على حال حركة القلب من حركة الشريان.
تصنيف الأنباض
لدى دراسة هذا الفصل في معظم الكتب الطبية القديمة، يداخلنا الشك في أن الأطباء القدماء على براعتهم وخبرتهم، قد توصلوا فعلاً إلى هذا التصنيف بالدراسة والمشاهدة وفحص المرضى، وليس بفعل الفكر والخيال.
فحص البول أو القارورة أو التفسرة
كان فحص البول عند القدماء لا يقل أهميةً عن فحص النبض. وكان لفحص البول، كما هي الحال اليوم، شروط دقيقة وعلمية. يجب جمعه في القارورة صباحاً، على أن لا يكون المريض قد تناول أدويةً أو أطعمةً قادرةً على تغيير لون البول (كالزعفران والرمان والبقول)، أو القيام بأعمال تغير من تركيبه (كالصوم والحيض والسهر والتعب والجوع). ويجب أن لا يكون قد مضى عليه زمن طويل، (ويشدد ابن سينا على هذه الناحية، فلا يقبل بأكثر من ساعة واحدة).
ويشرح الرازي طريقة الفحص، فيقول : "يجب أن تؤخذ القارورة وتوجه نحو كرة نور على أن لا يسقط شعاع الشمس عليها. ويقف الطبيب في الجهة المقابلة للجهة المضيئة. وذلك بعد أن يكون قد ترك فترةً من الزمن حتى ترسب فيه المواد، وما على القارورة سمي راسباً". وتدرس صفاته وهي : اللون، والقوام، والصفاء، والرسوب، والرائحة.
وكان بعض العلماء، ومنهم الرازي، يضيفون إلى تلك الصفات : اللمس والطعم بينما يرفض ابن سينا ذلك، أما فحص البول فيدل على أحوال الكبد، وجهاز البول، والحميات بشكل عام، وأمراض الدم، إلخ ... .
ولا عجب فلم يكن لديهم من وسائل التشخيص إلا القليل. ولذلك كان التشخيص التفريقي صعباً، واهتم الأطباء به، فكانوا يذيلون وصف الداء بالتشخيص التفريقي المناسب. بل إن الرازي كرس للموضوع كتاباً خاصاً بعنوان ما الفارق، أو الفروق أو كلام في الفروق بين الأمراض، كان لي شرف تحقيقه ونشره. وألف ابن الجزار كتاباً في الموضوع نفسه أسماه : الفروق بين العلل والأمراض التي تسببه.
وفيما يلي يجد القارئ دراسةً عن النبض في الطب العربي كنموذج للاهتمام الدقيق بدراسة العلامات السريرية.
تشدد بعض المدارس الطبية وخاصةً الفرنسية منها، على ما نسميه بالحدس السريري Le Bon sens clinique. وهي صفة خاصة كالموهبة تساعد الطبيب الموهوب على الوصول إلى التشخيص بشكل أدق وأسرع. وقد يسميها البعض حاسة الشم، فكما أن الحيوان يهتدي إلى الشيء الضائع الذي يبحث عنه بقوة حاسة الشم لديه، كذلك يصل الطبيب إلى التشخيص بهذه الحاسة الغريبة لديه.
"إني أرى من أفضل الأمور أن يستعمل الطبيب المعاينة بالنظر، ذلك أنه إذا سبق فعلم وتقدمه، فأنذر المرضى بالشيء الحاضر وبما مضى، وما يستأنف وعبر عن المريض كل ما كان قصر عن وصفه كان حرياً بأن يوثق به، وبأنه قادر على أن يعلم أمور المرضى حتى يدعو ذلك المرضى إلى الثقة به والاستسلام في يدي الطبيب، وكان علاجه لهم على أفضل الوجوه، إذ كان يتقدم في علم من العلل الحاضرة وما تؤول إليه."
وربما كان السبب أن معظم المرضى كانوا ولا يزالون في البلاد المتخلفة، لا يستدعون الطبيب إلا بعد استفحال المرض.
وهنا كان على الطبيب أن يتعرف على العلامات المنذرة بالموت والتي كرس لها أبقراط كتاباً بأكمله عرف باسم تقدمة المعرفة Prognosis.
وهي أكثر من الإنذار، فهي تعني، كما يقول ابن رضوان : "تعرف العلامات التي يقف بها الطبيب على أحوال مرض في الأزمان الثلاثة : في الماضي، والحاضر والمستقبل. وعرف أنه إذا أخبر بالماضي وثق به المريض فاستسلم له فتمكن بذلك من علاجه على ما توجبه الصناعة. وإذا عرف الحاضر قابله بما ينبغي من الأدوية وغيرها، وإذا عرف المستقبل استعد له بجميع ما يقابله به قبل أن يهجم عليه ما لا يحمله إلى أن يلقاه بما ينبغي".
ولقد شرح كثيرون كتاب تقدمة المعرفة، منهم ابن النفيس، وذلك لأهمية الموضوع كما قلنا.
أما التشخيص فهو يعتمد على الاستجواب، وفحص المريض. عندئذ يمكن تقسيم الداء إلى نوعين والمعالجة أيضاً:
الداء الأول : قابل للشفاء، وهنا يلعب علم الطبيب وبراعته دوراً كبيراً.
والداء الثاني : مرض قتال، وعلى الطبيب التشخيص الجيد والإنذار الصحيح، وربما استطاع عن طريق المداواة، أن يطيل حياة المريض.
والمعالجة الأولى : أن يتخذ المريض أغذية تناسب حالته.
والمعالجة الثانية : أن يتلطف بالأدوية التي يعالج بها. وقد قال القدماء إن أكثر الأدوية نفعاً هي المتوافرة والرخيصة.
ولقد تميز الأطباء القدامى بمقدرتهم الكبيرة على التأمل ودراسة تطور المرض سريرياً بمراحل وتسجيل جميع التفاصيل بدقة متناهية. مثال ذلك دراسة البول.
الأحد مايو 09, 2010 6:19 am من طرف DaNGeR BOy
» أحبك!!!!!!!
الأحد مايو 09, 2010 6:14 am من طرف DaNGeR BOy
» ماذا فعلت الخادمه للشاب وماذافعل لها؟؟
الخميس مايو 06, 2010 3:17 pm من طرف DaNGeR BOy
» جميع اغاني الملك عبــــــــــــــــادي aBaDay الجديده والقديمه
الخميس مايو 06, 2010 2:56 pm من طرف DaNGeR BOy
» قصة مضحكه ألي بموت من الضحك مالي شغل هههه
الجمعة أكتوبر 09, 2009 7:30 am من طرف *~RPG~*
» انفلونزه الخنازير
الإثنين أكتوبر 05, 2009 2:15 am من طرف بو عبدالله
» ماهووو الخااطر!! الجزء ثاني<2>
الأحد أكتوبر 04, 2009 4:53 am من طرف بوعيســــــى
» كيفيه اداء العمرة!!
الأحد أكتوبر 04, 2009 4:45 am من طرف بوعيســــــى
» كيفية اداء الحج!!
الأحد أكتوبر 04, 2009 4:43 am من طرف بوعيســــــى